سورة الأنبياء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{إِنَّ هذه} أي ملةَ التوحيد والإسلام أشير إليها بهذه تنبيهاً على كمال ظهور أمرِها في الصحة والسَّداد {أُمَّتُكُمْ} أي ملتُكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتُراعوا حقوقَها ولا تُخِلّوا بشيء منها والخطابُ للناس قاطبة {أُمَّةً وَاحِدَةً} نصب على الحالية من أمتُكم أي غيرَ مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام، إذ لا مشاركةَ لغيرها في صحة الاتباعِ ولا احتمال لتبدّلها وتغيُّرها كفروع الشرائعِ المتبدلة حسب تبدّلِ الأممِ والأعصار، وقرئأمتَكم بالنصب على البدلية من اسم إن أمةٌ واحدةٌ بالرفع على الخبرية وقرئتا بالرفع على أنهما خبران {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} لا إله لكم غيري {فاعبدون} خاصة لا غيرُ.
وقوله تعالى: {وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} التفاتٌ إلى الغَيبة لينعى عليهم ما أفسدوه من التفرق في الدين وجعلِ أمره قِطَعاً مُوَزّعةً وينهى قبائحَ أفعالهم إلى الآخرين كأنه قيل: ألا ترَون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله الذي أجمعت عليه كافةُ الأنبياء عليهم السلام {كُلٌّ} أي كلُّ واحدة من الفرق المتقطّعة أو كلُّ واحد من آحاد كلِّ واحدة من تلك الفرق {إِلَيْنَا راجعون} بالبعث لا إلى غيرنا فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم، وإيرادُ اسمِ الفاعل للدِلالة على الثبات والتحقق.
وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} الخ، تفصيلٌ للجزاء أي فمن يعملْ بعضَ الصالحات أو بعضاً من الصالحات {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله ورسله {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا حِرمانَ لثواب عملِه ذلك، عبّر عن ذلك بالكفران الذي هو سَتْرُ النعمة وجحودُها لبيان كمال نزاهتِه تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى من القبائح وإبرازِ الإثابة في معرِض الأمور الواجبةِ عليه تعالى، ونفيُ الجنس للمبالغة في التنزيه وعبّر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به {وَإِنَّا لَهُ} أي لسعيه {كاتبون} أي مُثبّتون في صحائف أعمالِهم لا نغادر من ذلك شيئاً.
{وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ} أي ممتنعٌ على أهلها غيرُ متصوَّر منهم، وقرئ: {حِرْمٌ} وهي لغة كالحِل والحلال {أهلكناها} قدّرنا هلاكها أو حكمنا به لغاية طغيانهم وعتوّهم وقوله تعالى: {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} في حيز الرفع على أنه مبتدأٌ خبرُه حرامٌ أو فاعل له سادٌّ مسدَّ خبرِه، والجملةُ لتقرير مضمونِ ما قبلها من قوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون} وما في أنّ من معنى التحقيق معتبرٌ في النفي المستفادِ من حرامٌ لا من المنفي أي ممتنعٌ البتةَ عدمُ رجوعِهم إلينا للجزاء، لا أن عدمَ رجوعِهم المحقق ممتنعٌ، وتخصيصُ امتناعِ عدمِ رجوعِهم بالذكر مع شمول الامتناعِ لعدم رجوعِ الكل حسبما نطق به قوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون} لأنهم المنكِرون للبعث والرجوعِ دون غيرهم، وقيل: ممتنعٌ رجوعُهم إلى التوبة على أن (لا) صلةٌ، وقرئ: {أنهم لا يرجِعون} بالكسر على أنه استئنافٌ تعليليٌّ لما قبله فحرامٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي محرمٌ عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوعِ بالإيمان والسعي المشكور، ثم علل بقوله تعالى: {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} عما هم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك، ويجوز حملُ المفتوحة أيضاً على هذا المعنى بحذف اللامِ عنها، أي لأنهم لا يرجعون وحتى في قوله تعالى: {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} الخ، هي التي يُحكى بعدها الكلامُ وهي على الأول غايةٌ لما يدل عليه ما قبلها، كأنه قيل: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامةُ يرجعون إلينا ويقولون: يا ويلنا الخ، وعلى الثاني غايةٌ للحُرمة أي يستمر امتناعُ رجوعِهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها حين لا تنفعهم التوبةُ، وعلى الثالث غايةٌ لعدم الرجوعِ عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع، ويأجوجُ ومأجوجُ قبيلتان من الإنس قالوا: الناسُ عشرةُ أجزاء تسعةٌ منها يأجوجُ ومأجوج، والمرادُ بفتحها فتحُ سدِّها على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه، وقرئ: {فتّحت} بالتشديد {وَهُمْ} أي يأجوجُ ومأجوجُ، وقيل: الناس {مّن كُلّ حَدَبٍ} أي نشَز من الأرض، وقرئ: {جدَث} وهو القبر {يَنسِلُونَ} أي يسرعون وأصله مقاربةُ الخَطْو مع الإسراع، وقرئ بضم السين {واقترب الوعد الحق} عطف على فُتحت والمرادُ به ما بعد النفخة الثانية من البعث والحسابِ والجزاء لا النفخةُ الأولى {فَإِذَا هِىَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ} جوابُ الشرط وإذا للمفاجأة تسدّ مسدّ الفاءِ الجزائية كما في قوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فإذا دخلتها الفاء تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط، والضميرُ للقصة أو مبهمٌ يفسره ما بعده {ياويلنا} على تقدير قول وقع حالاً من الموصول، أي يقولون: يا ويلنا تعالَ فهذا أوانُ حضورِك، وقيل: هو الجواب للشرط {قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ} تامة {مّنْ هذا} الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه تعالى للجزاء ولم نعلم أنه حقٌ {بَلْ كُنَّا ظالمين} إضرابٌ عما قبله من وصف أنفسهم بالغفلة، أي لم نكن غافلين عنه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذُرِ مكذّبين بها، أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب.


{واقترب الوعد الحق} عطف على فُتحت والمرادُ به ما بعد النفخة الثانية من البعث والحسابِ والجزاء لا النفخةُ الأولى {فَإِذَا هِىَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ} جوابُ الشرط وإذا للمفاجأة تسدّ مسدّ الفاءِ الجزائية كما في قوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فإذا دخلتها الفاء تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط، والضميرُ للقصة أو مبهمٌ يفسره ما بعده {ياويلنا} على تقدير قول وقع حالاً من الموصول، أي يقولون: يا ويلنا تعالَ فهذا أوانُ حضورِك، وقيل: هو الجواب للشرط {قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ} تامة {مّنْ هذا} الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه تعالى للجزاء ولم نعلم أنه حقٌ {بَلْ كُنَّا ظالمين} إضرابٌ عما قبله من وصف أنفسهم بالغفلة، أي لم نكن غافلين عنه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذُرِ مكذّبين بها، أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب.
وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} خطابٌ لكفار مكةَ وتصريحٌ بمآل أمرهم مع كونه معلوماً مما سبق على وجه الإجمالِ مبالغة في الإنذار وإزاحةِ الاعتذار، وما تعبدون عبارةٌ عن أصنامهم لأنها التي يعبدونها كما يفصح عنه كلمة ما، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلا الآيةَ قال له ابن الزِّبَعْرَي: خصمتُك وربِّ الكعبة أليست اليهودُ عبدوا عُزيراً والنصارى المسيحَ وبنو مليحٍ الملائكةَ؟ ردّ عليه بقوله عليه السلام: «ما أجهلك بلغة قومك، أما فهمت أن ما لما لا يعقل؟» ولا يعارضه ما روي أنه عليه السلام رده بقوله: «بل هم عبدوا الشياطينَ التي أمرتْهم بذلك» ولا ما روي أن عبدَ اللَّه بن الزُّبعري قال: هذا شيءٌ لآلهتنا خاصة أو لكل مَنْ عُبد من دون الله، فقال عليه السلام: «بل لكل من عُبد من دون الله تعالى» إذ ليس شيءٌ منهما نصاً في عموم كلمة ما كما أن الأولَ نصٌّ في خصوصها، وشمولُ حكم النص لا يقتضي شمولَه بطريق العبارة بل يكفي في ذلك شمولُه لهم بطريق دِلالة النصِّ بجامع الشركةِ في المعبودية من دون الله تعالى، فلعله عليه السلام بعد ما بين مدلولَ النظمِ الكريم بما ذكر، وعدمَ دخول المذكورين في حكمه بطريق العبارةِ بيّن عدم دخولِهم فيه بطريق الدِلالة أيضاً تأكيداً للرد والإلزام وتكريراً للتبكيت والإفحام، لكن لا باعتبار كونهم معبودين لهم كما هو زعمُهم فإن إخراجَ بعضِ المعبودين عن حكم منبىءٍ عن الغضب على العبَدة والمعبودين مما يوهم الرخصةَ في عبادته في الجملة، بل بتحقيق الحقِّ وبيانِ أنهم ليسوا من المعبودية في شيء حتى يُتوهم دخولُهم في الحكم المذكورِ دلالة بموجب شركتهم للأصنام في المعبودية من دون الله تعالى، وإنما معبودُهم الشياطينُ التي أمرتهم بعبادتهم كما نطق به قوله تعالى: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} الآية، فهم الداخلون في الحُكم المذكور لإشراكهم الأصنامَ في المعبودية من دونه تعالى دون المذكورين عليهم السلام وهذا هو الوجهُ في التوفيق بين الأخبار المذكورة، وأما تعميمُ كلمةِ ما للعقلاء أيضاً وجعلُ ما سيأتي من قوم تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} الخ، بياناً للتجوز أو التخصيص فمما لا يساعده السباقُ والسياق كما يشهد به الذوقُ السليم، والحَصَبُ ما يُرمى به ويهيج به النار من حصَبه إذا رماه بالحصْباء، وقرئ بسكون الصاد وصفاً له بالمصدر للمبالغة {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} استئنافٌ أو بدلٌ من حصبُ جهنمَ واللامُ معوّضة من على للدِلالة على الاختصاص وأن ورودَهم لأجلها والخطابُ لهم ولما يعبدون تغليباً.


{لَوْ كَانَ هَؤُلاء} أي أصنامُهم {ءالِهَةً} كما يزعمون {مَّا وَرَدُوهَا} وحيث تبين ورودُهم إياها تعين امتناعُ كونها آلهةً بالضرورة، وهذا كما ترى صريحٌ في أن المرادَ بما يعبدون هي الأصنامُ لأن المرادَ إثباتُ نقيضِ ما يدّعونه وهم إنما يدّعون إلهية الأصنام لا إلهية الشياطين حتى يُحتجَّ بورودها النارَ على عدم آلِهيّتها، وأما ما وقع في الحديث الشريف فقد وقع بطريق التكملة بانجرار الكلام إليه عند بيان ما سيق له النظمُ الكريم بطريق العبارة، حيث سأل ابنُ الزبعرى عن حال سائرِ المعبودين وكان الاقتصارُ على الجواب الأول مما يوهم الرخصةَ في عبادتهم في الجملة لأنهم المعبودون عندهم، أجيب ببيان أن المعبودين هم الشياطينُ وأنهم داخلون في حكم النص لكن بطريق الدِلالة لا بطريق العبارة لئلا يلزَمَ التدافعُ بين الخبرين {وَكُلٌّ} أي من العبَدة والمعبودين {فِيهَا خالدون} لا خلاصَ لهم عنها.
{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي أنينٌ وتنفسٌ شديدٌ وهو مع كونه من أفعال العبَدة أضيف إلى الكل للتغليب، ويجوز أن يكون الضميرُ للعبدة لعدم الإلباس وكذا في قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يسمع بعضُهم زفيرَ بعض لشدة الهول وفظاعةِ العذاب، وقيل: لا يسمعون ما يسرهم من الكلام.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13